سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقالوا} حين سمعوا ذكر البعث والرجوع إلى الله: {لولا نُزل عليه آية من ربه} تدل على ما ادعاه من البعث والرجوع إلى الله، وعلى أنه رسول من عند الله، {قل} لهم: {إن الله قادر على أن ينزل آية} خارقة للعوائد، يرونها عيانًا، وتضطرهم إلى الإيمان، {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أن إنزالها وبالٌ عليهم؛ لأنهم إن عاينوها ولم يؤمنوا عُوجلوا بالعقاب، أو: لا يعلمون أن الله قادر على أكثر مما طلبوا؟.
وهذا الطلب قد تكرر منهم في مواضع من القرآن، وأجابهم الحق تعالى بأجوبة مختلفة، منها: ما يقتضي الرد عليهم في طلبهم الآيات؛ لأنهم قد أتاهم بآيات، وتحصيل الحاصل لا ينبغي، كقوله: {قّدْ بَيَّنَّا الأَيَاتِ} [البَقَرَة: 118]، {أَوَلَمْ يَكُفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51]، ومنها: ما يقتضي الإعراض عنهم؛ لأن الخصم إذا تبين عناده سقطت مكالمته. ويحتمل أن يكون منه قوله هنا: {قل إن الله قادر...} الآية.
فإن قيل: كيف طلبوا آية وهم قد رأوا آيات كثيرة، كانشقاق القمر، وإخبارهم بالغيب، وغير ذلك؟ فالجواب: أنهم لم يعتدوا بما رأوا؛ لأن سر الربوبية لا يظهر إلاَّ ومعه شيء من أردية القهرية، وهم قد طلبوا آية يدركونها من غير نظر ولا تفكر، وهو خلاف الحكمة.
ثم ذكر دلائل قدرته على البعث وغيره، فقال: {وما من دابة} تَدِبُّ {في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه} في الواء، {إلا أمم أمثالكم}؛ مقدرة أرزاقها، محدودة آجارها، معدودة أجناسها وأصنافها، محفوظة ذواتها، معلومة أماكنها، كلها في قبضة الحق، وتحت قدرته ومشيئته، فدل ذلك على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره، فيدل على قدرته على أن ينزل آية، وعلى بعثهم وحشرهم؛ لأنه عالم بما تنقص الأرض منهم، كما قال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب} أي: اللوح المحفوظ، {من شيء}؛ فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من جليل ودقيق، لم يهمل فيه أمرَ حيوان ولا جماد، ظاهرًا ولا باطنًا، أو القرآن؛ فإنه قد اشتمل على كل ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً ومجملاً، حتى قال بعض السلف: (لو ضَاع لي عِقالٌ لوجتُه في كِتَابِ الله) أي: باعتبار العموم وأصول المسائل.
قال تعالى: {ثم إلى ربهم يُحشرون} أي: الأمم كلها، فيُنصف بعضها من بعض. كما رُوِي أنه يُؤخذ للجَمَّاء من القَرنَاء وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: يُحشر الخلقُ كلهم يوم القيامة: البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغُ من عَدل الله تعالى أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كُوني ترابًا، فذلك حيث يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النّبَأ: 40]. وفي المسألة اضطراب بين العلماء، والصحيح هو حشرها، كما قال تعالى: {وَإِذّا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التّكوير: 5]، وعن ابن عباس رضي الله عنه: (حشرها موتها). والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تقدم مرارًا أن طلب الكرامات من الأولياء: لقلة الاعتقاد فيهم وقلة الصدق. وأكمل الكرامات: الاستقامة على التوحيد في الباطن، وتحقيق العبودية في الظاهر. وبالله التوفيق.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {والذين كذبوا بآياتنا} الدالة على كمال قدرتنا وتحقيق وحدانيتنا، أو بآياتنا المنزلة على رسولنا، هم {صمٌّ} لا يسمعون مثل هذه الآيات الدالة على ربوبيته وكمال علمه وعظيم قدرته سماعًا تتأثر به نفوسهم، {و} هم أيضًا {بُكم} لا ينطقون بالحق، وهم {في الظلمات} أي: خائضون في بحر ظلمات الكفر والجهل، وظلمة العناد، وظلمة التقليد، فوصفهم بالصمم والبَكَم والعَمى، ويؤخذ العمى من قوله: {في الظلمات}، وهذا كله داخل تحت مشيئته وعلمه السابق؛ {من يشأ الله يُضلله} عدلاً، {ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم}؛ بأن يرشده إلى الهدى ويحمله عليه، فيتبع الطريق الذي لا عوج فيه.
الإشارة: أولياء الله في أرضه من آيات الله، فمن كذب بهم بقي في ظلمة الجهل بالله وظلمة حجاب النفس وحجاب الأكوان، محجوبًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، قلبه أصم عن تَذَكُّرِ الحقائق، ولسانه أبكم عن النطق بحكم العلم والأسرار، لم تسبق له في مشيئة الحق عناية، ولا هَبَّ عليه شيءٌ من رياح الهداية، عائذًا بالله من سوء القضاء ودرك الشقاء.


قال في المشارق: أرأيتك: معناه: الاستخبار والاستفهام، أي: أخبرني عن كذا، وهو بفتح التاء في المذكر والمؤنث والواحد والجمع، تقول: أرأيتك وأرأيتكما وأرأيتكم، ولم تُثَن ما قبل علامة المخاطب ولم تَجمعَهُ، فإذا أردت معنى الرؤية أي البصرية ثَنيت وجمعت وأنثت، فقلت: أرأيتك قائمًا، وأرأيتُكِ قائمة، وأرأيتكما وأرأيتموكم وأرأيتيكن. اهـ. وقال في الإتقان: إذا دخلت الهمزة على رأيت امتنع أن يكون من رؤية العين والقلب، وصار المعنى: أخبرني، وهو خلاف ما قال في المشارق، فانظره وانظر الحاشية الفاسية.
قال البيضاوي: {أرأيتكم}: استفهام تعجب، والكاف: حرف خطاب، أكد به الضمير للتأكيد، لكن لا محل له من الإعراب، لأنك تقول: أرأيتك زيدًا ما شأنه، فلو جعلت الكاف مفعولاً كما قاله الكوفيون لعدَّيت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل، ولزم في الآية أن يقول: أرأيتكموكم، بل الفعل معلق، أو المفعول محذوف، وتقديره: أرأيتكم آلهتكم تنفعكم إذ تدعونها إن أتاكم عذاب الله، ويدل عليه: {أغير الله تدعون}. اهـ. وجواب {إنْ}: محذوف؛ أي: إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة فمن تدعون؟ وجواب {إن كنتم}: محذوف أيضًا؛ أي: إنَّ كنتم صادقين في أنَّ غير الله ينفعكم فادعوه، ثم وصفهم بأنهم لا يدعون حينئذٍ إلا الله.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم يا محمد: {أرأيتكم} أي: أخبروني {إن أتاكم عذاب الله} في الدنيا كما أتى من قبلكم، {أو أتتكم الساعة} وأهوالها، {أغير الله تدعون} وتلتجئون إليه في كشف ما نزل بكم {إن كنتم صادقين} أن الأصنام آلهة، لا، {بل أياه تدعون} وحده، {فيكشف ما تدعون إليه} أي: ما تدعونه إلى كشفه، {إن شاء} أن يتفضل عليكم بالكشف في الدنيا، وقد لا يشاء، {وتنسون ما تشركون} أي: وتتركون آلهتكم في ذلك الوقت؛ لِما ركز في العقول من أنه قادر على كشف الضر دون غيره، أو تنسون من شدة الأمر وهوله.
الإشارة: إنما يظهر توحيد الرجال عند هجوم الأحوال، فإن رجع إلى الله وحده ولم يلتفت إلى شيء سواه، علمنا أنه من الأبطال، وإن فزع إلى شيء من السَّوى، علمنا أنه من جملة الضعفاء. وعندهم من جملة أصول الطريق: الرجوع إلى الله في السراء والضراء، فإن رجع إليه أجابه فيما يريد، وفي الوقت الذي يريد، وقد لا يريد على حسب إرادة المريد. والله تعالى أعلم.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10